ذكريات نجيب المانع : حمولات بين يدي القارئ

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
25/10/2009 06:00 AM
GMT



ما الذي يمنح كتاباً ما حساسية وعمقاً، ما الذي يجعل من قراءته لحظة إنسانية نادرة للحوار مع الذات، للإنصات لترنيمها في سعادتها وحزنها، في دهشتها بالعالم، وفي اتصالها الحميم بالأشياء، لتبدو الذات، جزءاً حياً، يانعاً ومكتملاً، من العالم، وهو الجزء الذي يكون بمستطاعه تدوين اللحظة الإنسانية بدفئها ورهافتها وهي تعيد إنتاج وقائعها بروح لا يعوزها الصدق ولا تنقصها الجرأة في المواجهة والاكتشاف، مواجهة ما حدث لإعادة اكتشافه في سبيل تحديد موقعه في تاريخ الشعور العام، هذا الشعور الذي يندر أن إلتفتت إليه ثقافتنا، لوعيه وتفهّم طبيعته، وهو ما يظل بحاجة، فيما يبدو، إلى أناس بمواهب خاصة تتعدى حدود العلاقة المباشرة مع العادي والمألوف لتصل عبر تماسها مع الحدث إلى حيّز خفي، صعب المنال، إنه الحيّز الذي يفتح نجيب المانع الباب لدخوله عبر كتابه (ذكريات عمر أكلته الحروف) في نوع من سخاء إنساني نادر، فالكاتب لا يتحدث، على عادة كتّاب السير والمذكرات، عن ذاته مركزاً للعالم بل يتحدث عن العالم ناظراً لذاته فيه، وهو العالم الذي يتسع بين يديه ليفتح بوابات الزبير، مدينته الأم، متأملاً طبائع أناسها، ويفتح بوابات البصرة ليتحدث عن عراقتها وسلام أبنائها، مثلما ينفتح عراق الأربعينيات بين يديه عالماً واسعاً يخطو من عتمة العصور الثقيلة المظلمة إلى أنوار الحداثة والتقاطات شعرائها.

وعي الكاتب
 وعي الكاتب مثل شعاع من الضوء ينير أشياء عدة في وقت واحد: الصداقة، والثقافة، والموسيقى، والمدينة، والتعليم، موضوعات تتفتح مثل أزهار يبللها مطر الروح الحانية فتلقي كل منها حمولاتها بين يدي القاريء في بناء يفيد من منجزات الرواية ومبتكرات صياغتها، فلماذا يحرّم عليّ، يتساءل نجيب المانع "وأنا أكتب هذه السيرة الذاتية الأدبية أن أجرؤ على الاستفادة من حرية كافكا مثلاً حين جعل الشاب جريجوري سامزا يستفيق ذات صباح فيجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة كبيرة"..
      في مذكراته يقترح المانع أسباباً تتخذ معها كتابته شكل المذكرات المضادة، فيها تخرج السنوات من تعاقب الزمان، ويمتنع الزمان عن أن يتحرّك تحرّكه في الحياة الطبيعية، إنه يسعى في نشدانه الفن إلى استخدام تكنيك الرواية والشعر والرسالة والنقد ويدخلها " في بوتقة تاريخ نسيته إلا من لمحات وتاريخ لا أتذكر منه سوى موته وتاريخ يعيش معي ويعبرني ويموت بعدي"، وإذا كان التاريخ هو صوت المؤرخ وجلاء نظرته للتجربة الإنسانية، فإن الذكريات هي روح صاحبها وما تقطّر من تجاربه في تماسه مع ما حوله، إنه يؤرخ للعالم في الوقت الذي يؤرخ لحظته الشعورية،هذه اللحظة التي تظل من دون فضيلة الاعتراف لحظة فارغة، مجرّدة ومتعالية، فقد حفلت ذكريات المانع بفضائل عدة أهمها فضيلة الاعتراف التي يبدو الرجل فيها إنساناً بما يحتمله من ضعف وقصور، لكنه سريعاً ما يتضح لقارئه ضعف الواضح الصريح، وقصور المتمكن العفيف في نظره للعلاقات البشرية في ضرورتها وهشاشتها ولا واقعيتها، الأمر الذي هيأ لصاحبه فرصة للمعرفة خارج ما تقوله الكتب، فالبشر أنفسهم كتب مفتوحة وتجارب ثرية، إنها قدرة التعلم أو قل ملكته التي تتطلب تنازلاً لنعرف كما عرف المانع " أن وراء ما نقوله صادقين يكمن كذب دفين، وهو كذب يغتفر إذا لم يؤد إلى القتل، ولكن المشكلة في مجتمعاتنا إن كل كذبة سكين تحز عنق الآخرين".

الإنصات للآخرين
        تمكّن هذه الفضيلة صاحبها من الإنصات للآخرين ومعاينتهم والكتابة عن خفي حيواتهم، كما في حياة السياب وهو شخصية مركزية من شخصيات الكتاب، بما يضيف لما عُرف عنه ملامح تكمل حضوره في الثقافة العربية، فلن يكتمل وجه المرء بما يقوله هو عن نفسه وما يعمل على رسمه وإضاءته مهما كانت براعته، ثمة تفصيل يظل بحاجة إلى من يضيؤه من الخارج لتكتمل الصورة، إنه أحد دروس ذكريات نجيب المانع.
       ومثلما يتفحص المانع ذاته يتفحص ثقافة عصره، لأنها بعض من الذات ومكوّن أساسي من مكوّناتها، هذا المكوّن الذي يخضع فيه الرصافي وطه حسين والعقاد والحكيم وأحمد شوقي لمراجعة ذاتية موضوعية في آن، منبعها فهم صاحبها لموقعه في الثقافة، فهم مادته التواضع وقوامه الشعور العالي بقيمة الإبداع التي تمكنه من النظر إلى مدارس عصره وهو يكتشف أن كلا الزعيمين، حسين والعقاد، ينقصه أمران: الأول أنه لم يحط بأبعاد المدرسة التي فتح أبوابها، والثاني أن كلاً منهما بعيد عن المدرسة الأخرى، مثلما يخوض في واحدة من أهم مشكلات العقل العربي: مشكلة الشعرالتي تغلّف حياتنا وتمنحها ضبابية توجهاتها أمام تراجع النثر الذي يرى فيه "انتهاء للهمجية ودخولاً في العلاقات البشرية الصحيحة".

تحرير الروح
       يضيء المانع علاقته بالأدب عبر تركيزه على الإنسان، إن الأدب في تجربة المانع محرر للروح من إغراء الكراهية، هذا الشعور الذي يقيّد الروح بحباله، موثقاً ارتباطها بما هو متدن، إن أجمل قصيدة يصيرها الإنسان هي أن يكون خالياً من الكراهية، ولكن الخلو من الكراهية لمدة طويلة عسير جداً، فما بين المتدني والرفيع يتحرّك بندول الإنسان متفحصاً ذاته، متأملاً اغترابه عنها وصولاً إلى الغربة العميقة التي أدركها المانع في واحدة من لحظات أزمته "هناك ما يجعلني أظن أن الهبوط من الجنة هو هبوط إلى الغربة البشرية".
ليكون الانفصال عن الذات والآخر متاهة في صحراء رمالها العلاقات الإنسانية المبددة، بما يؤدي لإنعاش طاقة التدمير لدى الإنسان، إن التدمير، بالنسبة له، لا يكمن في قدرة إنسان على قتل إنسان آخر فحسب، بل في قتل أسئلته، في قتل محاولاته لتصحيح مساره، في قتل توجهه نحو الحقيقة، قبل قتله جسدا.